ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com
ملحوظة: تستند هذه المقالة إلى المعلومات المتاحة حتى 14 أبريل 2025، ويُرجى التنويه إلى أن التقديرات المستقبلية الخاصة بالتمويل قد تخضع لتغيّراتٍ جوهرية، وذلك في ضوء ما قد يصدر لاحقًا من قراراتٍ أو تعديلاتٍ على الميزانيات المقترحة من قِبل الدول المانحة.
تعكس الإعلانات الأخيرة الصادرة عن الدول المانحة تغيّرًا متسارعًا في طبيعة العمل التنموي حول العالم، وقد تُمهّد لبداية تحوّلٍ كبير في أساليب تمويل البرامج التنموية وتنظيمها. إذ تشير التقديرات إلى أن حجم التخفيض في المساعدات قد يتراوح بين 41 و60 مليار دولار، أي ما يعادل انخفاضًا بنسبةٍ تتراوح من 15 إلى 22 في المائة، مقارنةً بعام 2023. غير أن هذه الأرقام لا تُعبّر عن الصورة بشكلٍ كامل، فقد تأثّرت بعضُ القطاعات أكثر من غيرها، ولا سيّما في ظل تركيز المانحين خلال السنوات الأخيرة على بعض القضايا، مثل دعم أوكرانيا واللاجئين. ويُرجّح أن تؤدي الضغوطُ الاقتصادية الراهنة، والإعلانات المرتقبة بشأن الميزانيات العامة، إلى مزيدٍ من التقليص في حجم المساعدات خلال المستقبل القريب.1 ويأتي هذا التحوّل في وقتٍ كانت فيه المساعداتُ الخارجية قد بدأت بالفعل في التراجع منذ ما قبل جائحة كوفيد-19، الأمر الذي يُفاقم من التحديات التي تواجه الدول والقطاعات الأكثر اعتمادًا على هذا النوع من الدعم.
تُعد برامج الصحة العالمية من بين القطاعات الأكثر تأثّرًا بموجة تخفيض المساعدات الخارجية. ووفقًا لتحليل صادر عن "ماكنزي"، سجّل حجم التمويل الموجّه لهذه البرامج تراجعًا بنسبة 44 في المائة، متقلصًا من 39 مليار دولار في عام 2022 إلى نحو 22 مليار دولار في التقديرات المستقبلية، وذلك بعد استبعاد الإنفاق المرتبط بجائحة كوفيد-19.2 وقد بدأت تداعيات هذا التراجع تنعكس فعليًا على أرض الواقع، من خلال تعطّل خدمات الرعاية الصحية وتأخّر توريد الإمدادات الأساسية. وفي ظل هذا المشهد المتغيّر، تجد المؤسسات المعنية نفسها أمام تحدٍّ مزدوج، يفرض عليها التعامل مع الصدمات الآنية، بالتوازي مع الاستعداد لإجراء إصلاحات هيكلية بعيدة المدى. وتشمل هذه الإصلاحات: البحث عن مصادر تمويلٍ جديدة، ورفع كفاءة الإنفاق، وتحديد الأولويات الاستثمارية، إلى جانب إعادة رسم النظام التنموي العالمي بما يضمن استغلال الموارد المتاحة بأعلى قدر من الكفاءة.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
ورغم ضبابية المشهد، تبقى الحاجةُ ملحّةً أمام قطاع التنمية لفهم الخيارات المتاحة وتحديد المسار الاستراتيجي الأمثل للمضي قدمًا. وتُعد هذه المقالة بمثابة مرجعٍ تحليليٍ موحّد، يساعد صانعي القرار على بناء تصوّرٍ واضح لاستراتيجياتهم، مع ضرورة متابعة المستجدات وتحليل تبعاتها مع تطور المشهد. وفي الختام، تسلّط المقالةُ الضوء على أربعِ استراتيجياتٍ رئيسية، تمكّن المنظمات من الحفاظ على فاعلية البرامج واستمراريتها وسط بيئةٍ تتسم بندرة الموارد، ما يجعل من ذلك أولويةً قصوى في مواجهة التحديات المتصاعدة.
قراءة في التأثير المحتمل لإعلانات المساعدات الإنمائية الرسمية الأخيرة
في محاولةٍ لتقييم الأثر المحتمل للإعلانات الأخيرة الخاصة بتخفيض المساعدات، قامت جهاتٌ بحثيةٌ متخصصة بدراسةٍ معمّقةٍ لمسار تطور التمويل الإنمائي في السنوات الماضية، إلى جانب دراسة واستكشاف ما قد ينتج من تداعياتٍ على الدول المستفيدة والمنظمات الدولية (يُرجى الاطّلاع على العمود الجانبيّ بعنوان: "منهجيّتُنا").
نموٌ مستمر في حجم المساعدات العالمية خلال السنوات الماضية
رغم الأزمات الاقتصادية والسياسية التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، أظهرت الدول المانحة التزامًا متزايدًا بدعم الدول النامية وتعزيز دور المنظمات الدولية، فقد واصلت المساعدات الإنمائية الرسمية تسجيل معدلات نمو ملحوظة، إذ ارتفعت منذ عام 2018 بمعدلٍ سنوي بلغ 6 في المائة، لتصل إلى 275 مليار دولار في عام 2023 (الشكل 1). كما سجّلت نسبة هذه المساعدات إلى إجمالي الدخل القومي لدى الدول المانحة الكبرى نموًا سنويًا بمعدل 5.42 في المائة خلال الفترة ذاتها، لتصل إلى 0.42 في المائة من الدخل القومي في عام 2023.3 ومع أهمية هذا التقدّم، إلا أن النسبة المحققة لا تزال بعيدةً عن الهدف الذي حدّدته الأمم المتحدة، والمتمثل في تخصيص 0.7 في المائة من الدخل القومي لصالح المساعدات الإنمائية.4
في الوقت الذي شهدت فيه المساعدات الإنمائية الرسمية نموًا ملحوظًا على مدار العقدين الماضيين، ظلّت مساهمتها في الإنفاق العام للدول المستفيدة شبه مستقرة، فقد حافظت على متوسط يقارب 2 في المائة من إجمالي النفقات الحكومية منذ عام 2000,5 ويُشير هذا الثبات إلى أن المساعدات تؤدي دورًا مساندًا ومستقرًا في تمويل السياسات العامة، دون أن تُشكّل بديلًا عن الموارد المحلية. ومع ذلك، يختلف توزيع هذه المساعدات بين البلدان والقطاعات، تبعًا لدرجة الاعتماد على الدعم الخارجي، وظروف كل دولةٍ وأولوياتها الاقتصادية.
المساعدات الدولية أمام منحدرٍ حادّ: تخفيضاتٌ تصل إلى 22% مقارنةً بعام 2023
تواجه المساعدات الإنمائية الرسمية مرحلة جديدة من الضغوط، في أعقاب إعلان سبعٍ من الدول المانحة الكبرى – بلجيكا، فرنسا، هولندا، السويد، سويسرا، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة – عن تخفيضاتٍ مرتقبة في ميزانياتها المخصصة للدعم الخارجي.6 وتشير التقديرات إلى أن حجم هذه التخفيضات قد يتراوح بين 41 و60 مليار دولار، أي ما يُعادل تراجعًا نسبته 15 إلى 22 في المائة مقارنةً بمستويات عام 2023. ويُتوقّع أن تشهد المرحلة المقبلة مزيدًا من الانكماش في التمويل، في ظل تحرّك الاتحاد الأوروبي وعددٍ من المؤسسات الدولية نحو طرح مقترحاتٍ إضافية لتقليص حجم المساعدات.7 ووفقًا للتحليلات، فإن أكبر انخفاض سنوي سُجّل حتى الآن يعود إلى عام 2007، وبلغ قرابة 56 مليار دولار، نتيجة انتهاء برامج مؤقتة لإعفاءاتٍ من الديون، دون أن يطال ذلك البرامج التنموية الأساسية.8 إلا أن التخفيضات الراهنة تتسم بطابع مختلف، إذ تتجه العديد من الدول المانحة نحو إعادة المساعدات إلى مستويات ما قبل عامَي 2020–2021، مع إعادة توجيه الأولويات نحو ملفات سياسية وأمنية، أبرزها دعم أوكرانيا، إلى جانب تزايد الإنفاق على احتياجات داخلية كتمويل برامج اللاجئين.9 ومن المرجّح أن يكون لهذا التحوّل أثرٌ غير متوازن على الدول النامية، لا سيما تلك ذات الدخل المنخفض والمتوسط، التي تعتمد بشكلٍ كبير على التدفقات الخارجية لتلبية متطلباتها التنموية.
في خضم التحوّلات الجيوسياسية والضغوط المالية المتصاعدة، اتجهت بعض الدول المانحة إلى تبرير قراراتها بخفض المساعدات، مستندةً إلى دليل الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو,10 الذي يحثّ الأعضاء على تخصيص ما لا يقل عن 2 في المائة من ناتجهم المحلي الإجمالي لصالح القطاع الدفاعي. هذا التوجه دفع عددًا من الحكومات إلى إعادة توزيع التمويل بعيدًا عن المساعدات الإنمائية الرسمية.11 كما تعكس التحوّلات الجارية في سياسات بعض دول مجموعة السبع مؤشرات على إمكانية اعتماد تخفيضات إضافية في المرحلة المقبلة. وبينما لم يُعلن الحلف عن موقف موحّد حيال هذا الاتجاه، برزت مقترحات أولية في عددٍ من الدول المانحة الكبرى، من بينها ألمانيا،12 تُشير إلى أن خيار تقليص الدعم الخارجي لا يزال حاضرًا على طاولة النقاش.
تأثيراتٌ متفاوتة لخفض التمويل وفقًا لطبيعة القطاع
تلعب المساعدات الإنمائية الرسمية اليوم دورًا محوريًا في دعم برامج التنمية عبر مجموعةٍ واسعةٍ من القطاعات، بدءًا من التدخلات الإنسانية العاجلة، مرورًا بدعم الهياكل الحكومية على المدى الطويل، وصولًا إلى المبادرات الاستراتيجية المعنية بالتحوّل في مجالات الطاقة والابتكار. ومع بدء تطبيق التخفيضات المالية المقررة في الميزانيات حيز التنفيذ، ستجد الجهات المعنية نفسها أمام خياراتٍ معقّدة تتطلب إعادة النظر في آليات توزيع الموارد، سواء داخل القطاع الواحد أو بين القطاعات المختلفة.
وفي ظل محدودية البيانات التفصيلية المتعلقة بمخصصات المساعدات، تُظهر التقديرات الحالية فجوةً ملحوظة بين الموازنات المتوقعة والمستويات المُسجّلة في عام 2023، وذلك بحسب كل قطاع، حيث يُقدَّر هذا التفاوت بما يتراوح بين 2 و37 في المائة (الشكل 2، الجزأين 1 و2). كما كشفت تقارير أولية صادرةٌ عن الحكومة الأمريكية – استنادًا إلى إلغاء عددٍ من العقود المبرمة مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية – أن التخفيضات المُعلَنة كانت أكثر حدّة في بعض القطاعات، مثل التعليم، والطاقة، والإنفاق الإداري.
وتتسع دائرة المخاطر لتشمل العديد من القطاعات والمجالات الفرعية. ولعل أكثر القطاعات عرضةً للتأثر بالتخفيضات تلك التي تعتمد على عددٍ محدودٍ من الجهات المانحة، كجهود الإغاثة والمساعدات الغذائية الطارئة – وهما من مكونات قطاع الاستجابة الطارئة – اللتان تعتمدان على جهتين مانحتين فقط بنسبةٍ تفوق 50 في المائة، مما يجعلها الأكثر تضررًا. كما يُرجّح أن تطال التخفيضات قطاعاتٍ أخرى تعتمد على التمويل متعدد الأطراف، مثل خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة، بالإضافة إلى قطاعات الزراعة والأمن الغذائي، والرعاية الصحية، حيث يتلقى كلٌّ منها ما لا يقل عن 30 في المائة من تمويله عبر مؤسساتٍ دوليةٍ متعددة. أما المبادرات المرتبطة بالمناخ، فهي الأخرى مرشّحةٌ للتأثر بشكلٍ واضح، إذ تُظهر بيانات عام 2023 أن الدول العشرين الأكثر استفادةً من المساعدات المرتبطة بالأهداف المناخية قد تلقّت ما يقرب من 72 في المائة من تمويلاتها من دولٍ تابعةٍ لحلف الناتو بشكلٍ مباشر.13
تخفيض المساعدات يهدد استقرار المنظمات متعددة الأطراف
تُعدّ المنظمات متعددة الأطراف قناةً محوريةً لتمويل المساعدات الدولية، مما يجعلها من أكثر الكيانات عرضةً للتأثر عند حدوث أي تخفيضاتٍ في المساعدات الإنمائية الرسمية. وتشير البيانات إلى أن دول حلف الناتو وحدها ساهمت بنحو 52 في المائة من إجمالي التمويل المُخصّص لأكبر تسع وكالاتٍ تابعةٍ للأمم المتحدة خلال عام 2023 (الشكل 3). وقد دفعت هذه التوقعات بعض الوكالات إلى اتخاذ تدابير احترازية شملت تعليق بعض البرامج وإغلاق عددٍ من المكاتب، تحسّبًا لأي تراجعٍ محتملٍ في التمويل.14 ولا تقتصر التأثيرات المُرتقَبة لهذه التخفيضات على تقليص التمويل المباشر فحسب، بل قد تمتد أيضًا إلى تداعياتٍ غير مباشرة. فقد يُحفّز تقليص بعض الدول المانحة لميزانياتها دولًا أخرى على اتخاذ خطواتٍ مماثلة، كما قد يدفع الممولين من القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني إلى إعادة النظر في التزاماتهم ومساهماتهم. كذلك، قد تصبح حكومات الدول المستفيدة أكثر حذرًا في تخطيطها المالي، مما يزيد من حالة الضبابية وعدم اليقين بشأن مستقبل الدعم الدولي. وفي ظل هذه الأجواء، تعوّل الجهات المعنية على جولات إعادة الرَّسملة المقررة في عامي 2025 و2026 – وهي عملياتٌ تهدف إلى ضخ تمويلاتٍ جديدة في الصناديق والمؤسسات متعددة الأطراف – باعتبارها مؤشرًا مبكرًا على مدى التزام الدول المانحة، والمسار المستقبلي لحجم التمويل واستقراره.15
نظرةٌ أعمق على تداعيات خفض المساعدات الإنمائية الرسمية على قطاع الصحة العالمية
وسط التوجهات العالمية المتزايدة لتقليص المساعدات الإنمائية، تتجه الأنظار إلى القطاع الصحي العالمي الذي يُعد من أكثر القطاعات تعرُّضًا للتهديد. فمع اعتماد برامج الصحة العالمية بشكلٍ مباشر على تلك المساعدات، تتزايد المخاوف من تداعيات سحب التمويل، خاصةً في ظل السيناريوهات المحتملة لتراجع أو توقف الدعم الموجّه إلى الخدمات الحيوية العامة مثل التطعيمات وصحة الأم والطفل ومكافحة الأمراض المدارية.
برامج الصحة العالمية مهددةٌ بخفض المساعدات
كشفت أحدث التقديرات أن نحو 18 في المائة من إجمالي التمويل المخصص للصحة في إطار المساعدات الإنمائية بات مهددًا بالتراجع، استنادًا إلى ما أعلنته الدول المانحة حتى الآن (الشكل 4، الجزأين 1 و2). وتزداد خطورة هذا التراجع في بعض المجالات التي تعتمد بشكل كبير على جهة مانحة واحدة؛ إذ تُموّل الولايات المتحدة وحدها أكثر من 35 في المائة من برامج مكافحة الإيدز والملاريا وتنظيم الأسرة في الدول المستفيدة.16 ووفقًا لأحدث التقارير الحكومية الأمريكية، هناك تخفيضات حادة مرتقبة قد تؤدي إلى التوقف الكامل لبعض المبادرات، مثل مكافحة الأمراض المدارية، وتطعيم الأطفال، ورعاية الأم والطفل.17 أما مساهمات القطاع الخاص، فلا تتجاوز 21 في المائة من إجمالي تمويل الصحة العالمية، ما يجعلها غير قادرة على سدّ الفجوة المتوقعة بمفردها.
وفي ظل هذا المشهد القاتم، بدأت الانعكاسات الفعلية لتخفيض التمويل تتجلّى بالفعل على أرض الواقع. فقد واجهت برامج الصحة العالمية اضطراباتٍ مباشرة، شملت تأخير توريد الإمدادات الأساسية والمستلزمات الطبية الضرورية، وتعطل تقديم خدمات الرعاية العلاجية، فضلًا عن إغلاق مشاريع البحث والتطوير، وتراجع الكفاءة التشغيلية اللازمة لإدارة البرامج الصحية.18
خفض المساعدات يكشف هشاشة الإنفاق الصحي في الدول الأكثر اعتمادًا على الدعم
تكشف التقديرات عن تباينٍ في مدى تأثّر الدول بتقليص المساعدات الإنمائية الرسمية، وذلك بناءً على مدى اعتماد كل دولةٍ من تلك الدول على مثل هذه المساعدات لتغطية إنفاقها على القطاع الصحي (الشكل 5). إذ تتلقّى 32 دولةً مساعداتٍ بأكثر من ربع إنفاقها على هذا القطاع، وهو ما يجعلها أكثر تعرضًا للمخاطر المالية.
وفي حال تنفيذ التخفيضات المعلنة من قبل الدول المانحة، سيتعيّن على هذه الدول توفير تمويلٍ إضافي قد يعادل 118 في المائة من إجمالي الإنفاق الحكومي المحلي على القطاع الصحي (الشكل 6)، وهو ما يُعدّ تحدٍّ بالغ الصعوبة، خصوصًا في الدول التي تعاني من أزمات ديون أو تواجه خطرًا مرتفعًا في هذا الصدد-والتي تُشكّل الغالبية ضمن قائمة البلدان الموضحة في الشكل 6-.19 وبذلك، تصبح الدول الأكثر اعتمادًا على المساعدات هي نفسها الأقل قدرةً على التكيّف مع تخفيض تلك المساعدات، مما يزيد من احتمالية حدوث أزماتٍ صحيةٍ حادة.
وتعتمد درجة تأثر الدول بهذه التداعيات على عدة عوامل، أبرزها خطورة المرض ومدى انتشاره في كل دولة، وتنوُّع مصادر التمويل الحالية، فضلًا عن قدرة الحكومات والمجتمع الدولي على التحرُّك السريع لتوفير بدائل تمويلية أو حلول إنقاذٍ تحول دون انهيار المنظومات الصحية.
مسارات بديلة لمستقبل التنمية العالمية
في خضمّ التحوّلات المتسارعة التي تواجه مشهد المساعدات الدولية، بات على القادة وصنّاع القرار من الحكومات والمنظمات إعادة التفكير في كيفية مواصلة أداء رسالتهم وتحقيق أهدافهم التنموية.
تتمثّل الخطوة الأولى في ضرورة فهم وتقييم الأثر المحتمل جرّاء تقليص المساعدات الإنمائية الرسمية الخاصة بكل قطاعٍ من القطاعات. وذلك عبر وضع كافة السيناريوهات المحتملة في نماذج، يمكن من خلالها التنبؤ بتداعيات وانعكاسات هذه التخفيضات في التمويل، وأثرها على مختلف البرامج والمناطق الجغرافية، مما يُمهّد الطريق لاتخاذ قراراتٍ استراتيجيةٍ مدروسةٍ واستباقية. فعلى سبيل المثال، يمكن دراسة التأثيرات المحتملة لخفض التمويل من خلال تحليل كل برنامج على حدة، ومقارنة حجم التمويل السابق بما قد يتم توفيره مستقبلًا. فمن خلال هذه الدراسة، يمكن تقدير الانخفاض المتوقع في حجم الخدمات المقدَّمة (مثل عدد العلاجات الطبية أو الإمدادات الصحية التي سيتم توزيعها). وبعد ذلك، يمكن استخدام نتائج الدراسات العلمية لتقدير الأثر الصحي الناتج عن ذلك الانخفاض المتوقع على صحة السكان عبر مؤشراتٍ محددة (مثل عدد السنوات التي قد يعيشها الأشخاص مع المرض أو الإعاقة)، وذلك لقياس حجم الخسائر المتوقعة بدقة.
وبينما يظلّ التحرُّك السريع ضرورةً عاجلة، فإن الحاجة إلى تخطيطٍ استراتيجي طويل المدى تزداد أهمية. ولتحقيق ذلك، يمكن للجهات المعنٍية اعتماد أربع أدواتٍ استراتيجية رئيسية تساعد على تعزيز القدرة على التكيّف مع الواقع الجديد للمساعدات الإنمائية خلال السنوات القادمة.
1. تعزيز كفاءة تصميم البرامج وآليات تنفيذها
في ظل الحاجة الملحة لترشيد النفقات وتحقيق أقصى أثرٍ ممكنٍ من المساعدات، يمكن للجهات المعنية بتقديم وإدارة المساعدات الإنمائية اتباع الخطوات التالية:
- اعتماد موازناتٍ مبنية على الحاجة الفعلية وهي ما تُعرَف بـ (الموازنة الصفرية)،20 لتحديد الحد الأدنى من الموارد المطلوبة لتحقيق النتائج المرجوّة.
- إعادة هيكلة سلاسل الإمداد للحصول على أفضل الأسعار وتقليل الفاقد.
- دمج الأنظمة وتوحيد المنصات التشغيلية للاستفادة من منصات التوصيل المشتركة وتقليل الإنفاق المتكرر.
- الاستثمار في التحول الرقمي لتخفيض التكاليف المستقبلية، وتحسين سرعة الحصول على البيانات ودقتها.
2. توسيع قاعدة التمويل لمواجهة التحديات
ينبغي العمل على توسيع قاعدة التمويل من خلال إشراك وزارات المالية والجهات المانحة غير التقليدية، بما في ذلك القطاع الخاص. وفي حالاتٍ محددة، يمكن التفكير في آلياتٍ تتيح للمستفيدين المحليين القادرين المساهمة جزئيًا في تكاليف الخدمات، بما يتيح للجهات المانحة توسيع دائرة التأثير من خلال مواردها المحدودة.
3. إعادة ترتيب الأولويات وتخصيص الاستثمارات
من الضروري أن تعيد الدول والمؤسسات النظر في أولوياتها الاستراتيجية، بحيث يتم توجيه الاستثمارات نحو المبادرات ذات الأثر الأكبر والعائد الاستثماري الأعلى، خاصةً في المناطق الأكثر احتياجًا. كما يجب التركيز أيضًا على المشروعات التي لا تجد دعمًا من مصادرٍ أخرى، لضمان استمرارية العمل في القطاعات الحيوية.
وعند إعادة ترتيب الأولويات وتحديد المبادرات التي سيتم تنفيذها، يُفضّل أن تستند الجهات المعنية إلى مجموعةٍ من المعايير التي تضمن تحقيق أقصى أثرٍ ممكن من الموارد المتاحة، وتشمل هذه المعايير ما يلي:
- الأثر الواسع: التركيز على البرامج التي تُحدث تأثيرًا مباشرًا وواسع النطاق على حياة الأفراد والمجتمعات المستفيدة.
- الاستجابة العاجلة: إعطاء أولوية للمبادرات ذات الطابع الطارئ التي تسهم في إنقاذ الأرواح وتحقيق نتائج فورية.
- دعم الفئات الضعيفة: توجيه الجهود نحو الفئات الأكثر ضعفًا وتهميشًا، مثل اللاجئين وذوي الإعاقة، بما يتماشى مع أهداف أجندة التنمية المستدامة 2030.
- دعم الكفاءة التشغيلية: الاستثمار في البرامج التي تُعزز من كفاءة منظومة العمل الصحي في مواجهة العديد من الأمراض عبر مختلف المناطق الجغرافية.
- الخبرة والتخصص: تنفيذ المبادرات التي تتطلب مهاراتٍ أو بنى تحتية أو موارد يصعب تعويضها، مما يجعلها ذات أهميةٍ خاصة.
- الأثر التحفيزي: إعطاء الأفضلية للبرامج التي تُسهم في جذب تمويلٍ إضافي أو تُحدث تغييراتٍ جذرية على مستوى النظام الصحي أو التنموي بشكلٍ عام.
4. إعادة بناء منظومة التنمية الدولية
مع تزايد الضغوط التي تواجه التمويل التنموي على مستوى العالم، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة هيكلة طريقة عمل منظومة التنمية الدولية بشكلٍ كامل. إذ يمكن للجهات المعنيّة التفكير في إقامة شراكاتٍ أو تنفيذ عمليات دمجٍ بين البرامج، والإدارات، والمنظمات الدولية، بما يُسهم في تقليص التداخل بين الجهود التنموية، وتحسين الكفاءة التشغيلية. ويمكن أن تتم هذه الهيكلة الجديدة باعتماد منهجيةٍ تقتضي بناء الميزانيات من الصفر، وفقًا للاحتياجات الفعلية لكل نشاطٍ أو مشروع، وليس على أساس مخصّصات السنوات السابقة، وذلك لضمان توافق البنية المالية مع الأولويات الجديدة. وفي هذا السياق، يمكن استكشاف حلولٍ مبتكرةٍ من مختلف القطاعات، بما في ذلك القطاع الخاص.
ورغم ما يفرضه تراجع التمويل من تحدياتٍ، إلا أنه يفتح الباب أمام إعادة التفكير في طرق تقديم البرامج وبناء أنظمةٍ أكثر مرونةً واستدامة. ومن خلال التخطيط السليم والشراكات الهادفة، تظل الفرصة قائمةً أمام الدول والمؤسسات لمواصلة تقديم دورها التنموي، وتحقيق أثرٍ ملموس في حياة المجتمعات حول العالم.