تدوينة ماكنزي الصوتيّة

رأس المال الخاص: بوابة أوروبا لتعزيز الإنتاجية وسد الفجوة التنافسية

| مقالة

ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com

بالرغم من احتلال أوروبا المرتبة الثالثة عالميًّا من حيث القوة الاقتصادية، وتقدُّمِها الملحوظ في مجالي الاستدامة والمعايير الاجتماعية، إلا أنّها تواجه تحدّيًا حقيقيًّا في قدرتها على المنافسة. وتتجلى ملامح هذه الأزمة بوضوح في اتساع الفجوة بين الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي ونظيره الأمريكي لتبلغ نحو 30 في المائة خلال الفترة الممتدة بين عامي 2002 و2023. 1 ويُعزى نحو 70 في المائة من هذا التراجع إلى تباطؤ نمو الإنتاجية بشكلٍ رئيسي، وهو ما انعكس سلبًا على مستويات الدخل في مختلف أنحاء أوروبا. فمنذ عام 2000، شهدت الأُسر الأمريكية نموًّا في دخلها الحقيقي القابل للإنفاق يُعادل تقريبًا ضعف الزيادة التي حققتها الأُسر الأوروبية خلال الفترة نفسها.2

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية

شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية

تصفح المجموعة

وتتضح معالم حل هذه الأزمة في أجندة التنافسية الأوروبية، التي أعدّها لها "ماريو دراغي"، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، تقريرًا مفصّلًا يُعَد بمثابة استراتيجيةٍ شاملة تهدف لتعزيز تنافسية الاقتصاد الأوروبي في مواجهة التحديات العالمية. فقد أكّدت الأجندة على ضرورة ضخ استثماراتٍ إضافية تُقدَّر بنحو 800 مليار يورو سنويًّا حتى عام 2030،3 وهو الهدف ذاته الذي تناولته المفوضية الأوروبية بمزيدٍ من التفصيل عبر استراتيجيتها التحليلية "بوصلة التنافسية الأوروبية" - وهي استراتيجيةٌ وضعتها المفوضية لقياس ومتابعة مدى التقدّم في تحقيق الأهداف طويلة الأمد الرّامية لتعزيز التنافسية الاقتصادية للقارة-.4 ورغم وضوح الهدف، إلا أن التحدّي الأكبر لا يزال يكمن في كيفية توفير هذا التمويل الضخم، فلم تعُد المصادر التقليدية كافيًة لسدّ الفجوة، إذ لم تتجاوز مساهمة التمويل العام نسبة 20 في المائة من إجمالي الاستثمارات خلال السنوات الماضية،5 فيما تشير تحليلاتنا إلى أن هذه النسبة ليس مُرجحٌ لها أن ترتفع إلى أكثر من 50 في المائة في المستقبل. وفي ظل اعتماد أوروبا بشكلٍ كبير على التمويل القائم على الديون عبر النظام المصرفي، والذي يُعد خيارًا غير ملائمٍ للاستثمارات ذات المخاطر العالية، تبقى الأسواق العامة عاجزةً عن تأمين التمويل المطلوب، حتى مع تعزيز تكامل أسواق رأس المال الأوروبية.6

وفي ظل الفجوة الاستثمارية المتزايدة التي تواجهها أوروبا، يتعاظم الدور المُنتظر من رأس المال الخاص. فعلى الرغم من أن حجم هذا القطاع لا يتجاوز نصف حجم نظيره الأمريكي، وذلك عند قياس حجم الأصول المدارة نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي،7 إلا أن أجندة التنافسية الأوروبية تُتيح له فرصةً تاريخية هي الأهم منذ عقود. إذ يمتلك هذا القطاع الأدوات والقدرات التي تؤهله لقيادة التحول الاقتصادي، لا سيما في ظل التوجهات السياسية المرتقبة، والتي من شأنها تمهيد الطريق أمام رأس المال الخاص لسد جزءٍ كبير من الفجوة الاستثمارية في القارة، وهو ما يستلزم زيادة استثمارات القطاع الخاص لتصل إلى 250 مليار يورو سنويًّا، مقارنةً بالمستويات الحالية التي تتراوح بين 100 إلى 150 مليار يورو.8

ولذا، تُعدّ اللحظة الرّاهنة فرصةً ثمينةً أمام قطاع رأس المال الخاص في أوروبا لترسيخ مكانته كمُحركٍ أساسي في دفع عجلة النمو وتحقيق التحول الاقتصادي المنشود. كما تُعيد هذه الخطوة رسم ملامح القطاع، فضلًا عن دورها في تقليص الفجوة بين الاقتصاد الأوروبي وغيره من الاقتصادات العالمية الأخرى. ولعلنا نستعرض في هذه المقالة كيف يمكن لرأس المال الخاص اغتنام الفرصة، رغم التحديات المتسارعة وضبابية المشهد التنظيمي. وفيما يلي أبرز المسارات التي يُمكن لروّاد هذا القطاع اتباعها:

  • التوسُّع في استثماراتٍ تتماشى مع أولويات أوروبا الاستراتيجية، لا سيما في مجالات الطاقة والِبنية التحتية والدفاع، حيث تلقى هذه القطاعات دعمًا متزايدًا من الحكومات، والتزامًا بضخ تمويلاتٍ ضخمة.9
  • تسريع وتيرة نمو الشركات الاستثمارية عبر تعزيز عمليات الدمج والتكامل بين الشركات في السوق الأوروبية، وبالأخص في القطاعات الحيوية مثل الاتصالات والنقل والطاقة، وذلك بالتوازي مع الجهود القائمة لإنشاء شبكاتٍ أوروبيةٍ عابرةٍ للحدود.
  • فتح آفاقٍ جديدة للتمويل عبر التوجّه إلى مصادر غير تقليدية، مثل استقطاب صناديق التقاعد، والتي بات بإمكانها تخصيص نسبةٍ أكبر من رؤوس أموالها للاستثمارات الخاصة، بفضل التعديلات الأخيرة في السياسات المالية.
  • المساهمة في تقليص الفجوة الإنتاجية مع الولايات المتحدة، عبر دعم السياسات الأوروبية الهادفة إلى تطوير المهارات ورفع كفاءة الكوادر البشرية.

واليوم، تقف أوروبا على أعتاب منعطفٍ تاريخي، تزداد فيه الحاجة إلى ترسيخ استقلاليتها وتعزيز اعتمادها على قدراتها الذاتية في تطوير القطاعات الاستراتيجية الحيوية، خاصةً مع تصاعد التوترات الجيوسياسية عالميًّا. ومن خلال خطواتٍ جريئةٍ ومدروسة، يُمكن لرأس المال الخاص أن يؤدي دورًا محوريًّا في إعادة رسم ملامح التنافسية الأوروبية على السّاحة العالمية، وذلك عبر دعم الابتكار، وتأسيس كياناتٍ أوروبيةٍ قوية، وحشد الاستثمارات اللازمة لمسيرة النهوض الاقتصادي الطموحة.

أجندة أوروبا الجديدة للنمو والاستثمار

تحتضن دول الاتحاد الأوروبي أكثر من 440 مليون نسمة، يتمتعون بالعديد من المزايا، من أبرزها ارتفاع مستوى المعيشة، وتوازن توزيع الدخل، وجودة التعليم والرعاية الصحية، إلى جانب التقدّم الملحوظ لدول الاتحاد والتزامها الصارم بمعايير الاستدامة وحماية البيئة. ويُعدّ الاقتصاد الأوروبي واحدًا من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم، إذ يضاهي تقريبًا حجم الاقتصاد الصيني، ويسهم بنسبة 17 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مقارنةً بالولايات المتحدة، والتي تُسهم بنسبة 26 في المائة.

ورغم هذه الإمكانات الهائلة، بدأ المحرك الاقتصادي الأوروبي يفقد زخمه خلال العقود الأخيرة، مما أدى لاتساع الفارق بينه وبين الاقتصادات الكُبرى، ليُسجّل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في أوروبا نموًا سنويًّا متوسطًا لم يتجاوز 1.4 في المائة خلال الفترة من عام 2002 إلى عام 2024- أي أقل بـ 0.8 نقطة مئوية من نظيره الأمريكي-.10 ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انعكس هذا التباطؤ سلبًا على حياة المواطنين الأوروبيين، فقد تراجعت مستويات المعيشة، وانخفضت جودة الخدمات العامة، بخلاف ما أحدثه هذا التباطؤ من تأثيرٍ سلبيٍ مباشر على طموحات أوروبا في تحقيق الريادة المناخية، وتعزيز الاستثمارات الدفاعية، والوفاء بالتزاماتها الاجتماعية.

ولعلّ من أبرز أسباب تعثّر الأداء الاقتصادي الأوروبي، قلة الاستثمارات الموجّهة للأصول، والتي تُعدّ المحرّك الحقيقي لنمو الإنتاجية. فبالرغم من تقارب مستويات الاستثمار الكليّة بين أوروبا والولايات المتحدة خلال الفترة من عام 2010 إلى 2022 - والتي بلغت نسبتها 20.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في أوروبا، مقابل 20.7 في المائة في الولايات المتحدة - إلا أن الفارق الحقيقي يكمن في نوعية الاستثمارات والأصول المُستهدفة. فقد أنفقت الولايات المتحدة أكثر من ضعف ما أنفقته أوروبا للفرد الواحد على الأصول الأعلى إنتاجيةً (مثل المعدات والآلات والملكية الفكرية والأصول غير الملموسة).11 وفي السياق ذاته، أنفقت الشركات الأمريكية الكُبرى، التي تتجاوز إيراداتها السنوية مليار يورو، ما يقارب 700 مليار يورو إضافية -أي ما يعادل 3,000 يورو للفرد - على النفقات الرأسمالية والبحث والتطوير، مقارنةً بنظيراتها الأوروبية،12 وهو ما تسبب بظهور فجوةٍ واضحةٍ في الأداء، إذ سجلت الشركات العامة الأوروبية عائدًا على رأس المال المُستثمَر أقل بأربع نقاطٍ مئوية من نظيراتها الأمريكية خلال الفترة ما بين 2015 إلى 202213.

ولكن، وعلى الرغم من التحديات التي تعصف بالاقتصاد الأوروبي، بدأت تلوح في الأفق تحركاتٌ فعّالة لمواجهة هذا التباطؤ في النمو. فعلى مدار سنواتٍ، دأبت مؤسسة ماكنزي على دراسة نقاط الضعف، وتحديد الأولويات التي ينبغي على أوروبا التركيز عليها للحفاظ على مكانتها التنافسية، بدءًا من تعزيز الابتكار وتنمية المواهب، وصولًا إلى تهيئة البُنى الهيكلية والتنظيمية الداعمة والمحفِّزة للنمو، لتضع أجندة عملٍ متكاملة. 14وفي سبتمبر 2024، صدر تقرير "دراغي" ليُمثل دفعةً قويةً لتعزيز هذه الأجندة، حيث أكّد على ضرورة توفير المزيد من الاستثمارات من القطاعين العام والخاص، وتوجيهها نحو أربعة مجالاتٍ رئيسية، لضمان تضييق الفجوة التنافسية مع الولايات المتحدة، وترسيخ الاستقرار الاقتصادي للاتحاد الأوروبي (الشكل 1). 15 ثم قامت المفوضية الأوروبية بإصدار استراتيجية "بوصلة التنافسية الأوروبية"، في يناير2025، لتُدعم هذا التوجه وتضع أُسسًا واضحةً لمسار الإصلاح المنشود.16

ولطالما اعتُبِر القطاع الخاص قاطرة الاستثمار في الأصول المحفِّزة للنمو، إذ ساهم بما يقارب الـ 80 في المائة من إجمالي تلك الاستثمارات على مرّ التاريخ.17 غير أن تعزيز هذا النوع من الاستثمار لم يكن بالأمر اليسير، بل كان هناك العديد من التحديات الهيكلية، وفي مقدمتها صعوبة اندماج الكيانات الكُبرى بسبب اختلاف الأنظمة والتشريعات من بلدٍ لآخر، إلى جانب بعض القيود المُعرقلة لنمو الشركات الناشئة (كمحدودية التمويل في المراحل المبكرة، وبعض العقبات التنظيمية). ولا تقتصر الصعوبات على ذلك فحسب، بل تشمل أيضًا ارتفاع أسعار الطاقة، وندرة الموارد، فضلًا عن تباطؤ نمو قطاع التكنولوجيا، وضعف وتيرة اعتماد التقنيات المتقدمة، إضافةً إلى ما قد تُسببه بعض السياسات الأمريكية من تأثيراتٍ محتملة في حال تخفيف القيود التنظيمية.

وبخلاف ما سبق، تواجه الاستثمارات – بما فيها استثمارات القطاع العام الأوروبي – مجموعةً أخرى من التحديات المعقّدة، من أبرزها تناقص أعداد السُّكان القادرين على العمل، وظهور بعض العوائق التجارية التي قد تُهدد العديد من الصناعات الرئيسية المعتمدة على التصدير، لا سيّما صناعة السيارات والطيران. إلا أنه من المتوقّع أن يؤدي التوسع في الاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي إلى زيادة حدّة المنافسة داخل القطاعات القائمة على الابتكار، مع احتمالية توجيه جزءٍ من هذه الطاقات الاستثمارية نحو الإنفاق الدفاعي في دول حلف الناتو. أما فيما يتعلّق بجهود التحوّل نحو الطاقة النظيفة، فعلى الرغم من زخمها، إلا أنها تواجه العديد من الصعوبات، في مقدّمتها البيروقراطية وارتفاع التكاليف، بجانب الاعتماد الكبير على استيراد التقنيات الأجنبية، مما يجعل تحقيق التوازن بين الطموحات البيئية والحفاظ على القدرة التنافسية الصناعية أمرًا بالغ الصعوبة.

فهم التحديات والفرص المتاحة لرأس المال الخاص

يشهد قطاع الأسهم الخاصة ورأس المال المغامر في أوروبا نموًا استثماريًا غير مسبوق، حيث يدير المستثمرون ما يقارب 1.5 تريليون يورو من الأصول، وذلك دون احتساب الاستثمارات المرتبطة بالائتمان أو البنية التحتية.18 وقد بلغ متوسط الاستثمارات السنوية في الأسهم نحو 130 مليار يورو على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، موزعةٌ على مختلف القطاعات الاقتصادية. ومن بين القطاعات التي سجّلت نموًا لافتًا خلال العقد الماضي قطاع الطاقة، فقد سجّل معدل نموٍ سنويٍ مركب بلغ نحو 14 في المائة، يليه قطاع التكنولوجيا الرقمية، والتقنيات الحيوية، والرعاية الصحية بنسبة 10 في المائة، ثم قطاع خدمات الأعمال والمواد بنسبة 8 في المائة، ويأتي أخيرًا قطاع التمويل والتأمين بنسبةٍ بلغت 7 في المائة.19

وبرغم هذا الزخم الملحوظ، وتفوُّق الأسهم الخاصة الأوروبية في أدائها على الأسواق العامة داخل القارة، وتجاوز الفارق المسجّل بين القطاعين مثيله في الولايات المتحدة،20 إلا أن حجم قطاع رأس المال الخاص الأوروبي مازال متواضعًا مقارنةً بالسوق الأمريكية، إذ لا تتجاوز قيمة الصفقات وحجم الاستثمارات السنوية في أوروبا نصف ما يتم تسجيله في الولايات المتحدة،21 فيما بلغت نسبة الأصول المُدارة في الأسهم الخاصة ورأس المال المغامر 8 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي، مقابل 17 في المائة في الولايات المتحدة (الشكل 2).22

وعلى الرغم من هذا التفوُّق الأوروبي النسبيّ، فإن صناديق رأس المال الخاص الأوروبية لم تتمكن من مضاهاة نظيراتها الأمريكية على مستوى الأداء العام. ففي الوقت الذي حققت فيه الاستثمارات الأوروبية معدلاتٍ إيجابيةٍ على مستوى العائد الداخلي -وهو مقياسٌ يستخدم لتقييم مدى ربحية الاستثمارات عبر مختلف القطاعات- خلال العشرين عامًا الماضية، تفوقت صناديق الاستثمار الأمريكية بمتوسطٍ بلغ حوالي خمس نقاطٍ مئوية سنويًا.23 علاوةً على ذلك، فإن ما يقرب من 57 في المائة من الشركات الرائدة في قطاع الأسهم الخاصة تعمل في الولايات المتحدة، وتستثمر رأس مالٍ بمتوسطٍ يزيد بنحو 2.8 مرة عن نظيراتها الأوروبية، كما أبرمت الشركات الأمريكية صفقاتٍ أكثر بنسبة 1.8 مرة خلال السنوات الخمس الماضية.24 أما على صعيد رأس المال المُغامر، فتتسع الفجوة بشكلٍ ملحوظ، إذ تُمثّل الشركات الأمريكية نحو 90 في المائة من الشركات الكُبرى في هذا المجال، مما جعلها تستثمر ما يقرب من 16 ضعف ما استثمرته الشركات الأوروبية، كما نجحت في إتمام صفقاتٍ أكثر بعشر مراتٍ تقريبًا خلال نفس الفترة.25

رأس المال الخاص.. قاطرةٌ استثمارية تعزز النمو وتدعم التوظيف بعوائد تتجاوز التوقعات

تنبَثِق أهمية رأس المال الخاص من كونه عنصرًا أساسيًا في سد فجوة التنافسية الاقتصادية، نظرًا لقدرته على تحقيق قيمةٍ تتجاوز ما تحققه الاستثمارات في الأسواق العامة، لاسيما في القارة الأوروبية (الشكل 3). فقد سجّلت صناديق هذا النوع من الاستثمار في أوروبا عوائد تُعادل 1.2 مرة ما حققته نظيراتها في الأسواق العامة خلال العقدين الماضيين، في حين بلغ الفارق بين عوائد صناديق رأس المال الخاص والأسواق العامة في الولايات المتحدة نحو 1.1 مرة. وتؤكد الأرقام الحديثة هذا التفوق، إذ وصلت قيمة العوائد المُحققة في الاتحاد الأوروبي بين عامي 2018 و2024 إلى 1.4 مرة مقارنةً بالأسواق العامة.26

بينما يشير تقرير "دراغي" إلى حاجة أوروبا لضخ استثماراتٍ إضافية تُقدَّر بنحو 800 مليار يورو سنويًا، تَظهر محدودية قدرة القطاع العام على توفير هذا الحجم من الاستثمارات، إذ تتراوح قدرته على تأمين ما بين 160 إلى 400 مليار يورو فقط، مما يجعل الفرصة سانحةً أمام رأس المال الخاص ليساهم في سد هذه الفجوة الاستثمارية.27

فرصٌ واعدة

مع سعيّ أوروبا لتعزيز قدرتها التنافسية، تظهر أمام مُستثمري قطاع رأس المال الخاص أربع فرصٍ رئيسيةٍ للنمو والتوسع. تتمثّل الفرصة الأولى في إيجاد آفاقٍ جديدةٍ للتوسع داخل القطاعات الاستراتيجية الهامة (مثل الطاقة، والذكاء الاصطناعي، والدفاع والطيران، بالإضافة إلى علوم الكم والحياة)؛ بينما تكمن الفرصة الثانية في تسريع نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة لتصبح كياناتٍ رائدة على مستوى القارة؛ أما الفرصتان الثالثة والرابعة فتتمحوران حول استكشاف مصادر جديدة للتمويل، والمساهمة في سد الفجوات الإنتاجية بين الدول والقطاعات المختلفة. ويرجع الفضل في توافر هذه الفرص إلى التعديلات التنظيمية المتوقعة والتوجهات السياسية المُرتقبة (يُرجى الاطّلاع على الجدول)، والتي من شأنها تهيئة بيئةٍ أكثر جذبًا للاستثمارات الكُبرى في المرحلة المقبلة.

1. استكشاف آفاقٍ استثمارية جديدة

تحظى بعض القطاعات الحيوية بأولويةٍ متقدمة على أجندات السياسات في مختلف الدول الأوروبية. ومن أبرز تلك القطاعات التحول في مجال الطاقة نحو الذكاء الاصطناعي، الرّقمنة، والتقنيات المتقدمة، بالإضافة إلى التقنيات الكميّة- التي تعتمد على مبادئ فيزياء الكَم في علاج العمليات المعقدة بشكلٍ أدق وأسرع-، وقطاع الطيران والدفاع، والفضاء، وصناعة السيارات، والنقل، فضلًا عن قطاع صناعة الدواء. ولعل حرص الحكومات على ضخ المزيد من التمويل في هذه المجالات،28يعكس توجّهًا قويًا لدعم نموّها واستدامة استثماراتها المُحتملة. لذا، ينبغي على رأس المال الخاص استغلال ما توفره هذه القطاعات من فرصٍ استثماريةٍ واعدةٍ، تتماشى مع الأهداف الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية التي تسعى أوروبا لتحقيقها.

  • يُعدُّ الانتقال من مصادر الطاقة التقليدية إلى مصادر الطاقة النظيفة محورًا أساسيًا في طموحات أوروبا لتحقيق الريادة في مجال تقليص الانبعاثات الكربونية على مستوى العالم، مما يزيد الحاجة لتخصيص المزيد من الاستثمارات، خاصةً في الابتكارات التقنيّة النظيفة والبنية التحتية. ومن أبرز هذه الابتكارات تقنيات الانشطار النووي، واستخدام الهيدروجين كمصدرٍ للطاقة النظيفة، بالإضافة إلى تقنيات التقاط الكربون المُنبعث من محطات الطاقة والصناعات الثقيلة قبل وصوله إلى الغلاف الجوي، ليتم تخزينه بشكلٍ آمن واستخدامه في تطبيقاتٍ أخرى. ولتحقيق تلك الطموحات سيكون من الحتمي زيادة القدرة الإنتاجية للقطاعات المتجددة الرئيسية، بما في ذلك الألواح الشمسية الكهروضوئية، وتخزين الطاقة المُنتَجة من مصادر متجددة لفتراتٍ طويلة، فضلًا عن التوسع في الشبكات الكهربائية الذكية، وذلك عبر الاستفادة من قدرات أوروبا وتكامُلها مع القطاعات الأخرى مثل صناعة السيارات، واستخدام الهيدروجين كوقودٍ بديل للوقود التقليدي، إلى جانب خلايا الوقود التي تحوِّل الطاقة الكيميائية إلى طاقةٍ كهربائية.
  • أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم من أهم العوامل التي تدعم رفع الإنتاجية وزيادة التنافسية الاقتصادية في أوروبا. ومع هذا التقدم، تظهر فرصٌ جديدة أمام المستثمرين للمساهمة في بناء منظومةٍ متكاملة للذكاء الاصطناعي داخل القارة، تشمل تطوير البنية التحتية للحوسبة، وإنشاء مراكز بحثية متقدمة، وتوسيع استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجالات الصناعية والخدمية (مثل تحديث أداء الخدمات المكتبية عبر حلولٍ ذكيةٍ تدعم كفاءة الأداء وتحسّن من سير العمل).29
  • وفي إطار التحول الرقمي واعتماد التقنيات الحديثة، تواصل السياسات والمبادرات الأوروبية- بدعمٍ من القطاعين العام والخاص -التركيز على عددٍ من المجالات الأساسية، أبرزها تطوير شبكات الإنترنت عالية السرعة، وتعزيز قدرات الحوسبة، إلى جانب دعم صناعة أشباه الموصلات.30 ومع ذلك، تبرز مجموعةٌ من المجالات الأخرى التي لا تقل أهميةً وتستحق منحها أولويةً مُماثلة، على رأسها تقنيات الاتصال، حيث تسعى أوروبا إلى ترسيخ موقعها في كافة مراحل تصنيع شبكات الاتصالات، بدءًا من البحث والتطوير وصولًا إلى مراحل الإنتاج النهائية، إلى جانب تشجيع الابتكار في خدمات الاتصال وتطوير البرمجيات. كما تُعد التقنيات الكَميَّة من أبرز المسارات الواعدة، خاصةً في مجالات تصنيع أجهزة الحوسبة والاستشعار، وتطوير تطبيقات البرمجيات، والمكونات الذكية – مثل الأجهزة أو الأنظمة المتقدمة التي تستخدم التقنيات الحديثة – للتحكُّم في العمليات، مما يسهم في تحسين كفاءة أنظمة الجيل القادم.
  • فيما تخلُق التوترات الجيوسياسية وزيادة الإنفاق العسكري على مستوى العالم فرصًا استثماريةً كبيرة في قطاعي الطيران والدفاع، وبالأخصّ في مجال التقنيات والخدمات المرتبطة بالفضاء. يقوم هذا النمو المُتوقع على نهج توحيد القدرات الأوروبية التقنية وتجميعها داخل تكتلاتٍ تكنولوجية متخصصة، مما يساعد على تعزيز الكفاءة والحد من تكرار الاستثمارات.
  • أما في قطاع السيارات، تأتي الأولوية للحفاظ على القدرة التنافسية في صناعة الجيل الجديد من المَركبات. لذا يجب توجيه الاستثمارات نحو عمليات البحث والتطوير في مراحلها المبكرة، إلى جانب توفير التجهيزات التقنية المتقدمة والمعقدة، والمواد المتطورة عالية الكفاءة، وتصميم الشرائح الإلكترونية المبتكرة للسيارات، وذلك لتفادي تراجع الحصة السوقية للشركات الأوروبية المحلية لصالح الشركات الأجنبية. وفي مجال النقل، تُركّز الأجندة على تطوير البنية التحتية، وتوحيد القوانين والتشريعات، وتعزيز المرونة، مع التأكيد على السعي الدائم نحو تطوير حلولٍ صديقةٍ للبيئة تعتمد على تقنيات خفض الانبعاثات الكربونية والأتمتة الذكية.
  • فيما يسهم رأس المال الخاص بشكلٍ كبيرٍ في مجال الصناعات الدوائية، من خلال تسريع عملية وصول الأدوية إلى الأسواق وزيادة الاستثمار في البحث والابتكار لإيجاد حلولٍ طبيةٍ جديدة. كما يفتح الاستثمار الذكي في التقنيات الكميَّة آفاقًا جديدة لاكتشاف أدويةٍ وعلاجاتٍ مبتكرة، لا سيما في القطاعات سريعة النمو مثل أدوية السمنة، وصحة القلب والأوعية الدموية، كما يسهم هذا النوع من الاستثمار في تعزيز تطوير الأجهزة الصحية الرقمية مثل الساعات الذكية، وتقنيات تحفيز الأعصاب التي تستخدم إشاراتٍ كهربائية لتنشيط أجزاءٍ من الجهاز العصبي، وأجهزة التصوير الطبي الدقيقة، والإلكترونيات الدقيقة التي تُستخدم في الأجهزة الطبية، فضلًا عن تقنيات تصغير حجم الأجهزة الطبية، وطرق العلاج المبتكرة مثل إزالة التعصيب الكلوي.

ويُعدّ دعم الشركات الناشئة والشركات سريعة النمو أحد الركائز الأساسية لدفع عجلة الابتكار، خاصةً مع حرص الحكومات على إطلاق مبادراتٍ جديدةٍ من شأنها تسريع وتيرة التطوير. ومن بين هذه المبادرات توسيع مصادر التمويل، وتقديم الدعم المباشر من جهاتٍ متخصصة تحاكي الوكالة الأمريكية للمشاريع البحثية المتقدمة- والتي تُعنى بتمويل الأفكار الجريئة والتقنيات الثورية التي قد لا تستطيع الشركات التقليدية تحمّل مخاطرها-، كما تشمل الجهود تقديم حوافز إضافية للمستثمرين الأفراد ولصناديق رأس المال المُغامر التي تدعم الشركات الصغيرة والناشئة. ويُسهم التعاون بين القطاعين العام والخاص في تعزيز مثل هذه المبادرات، وذلك عبر عقد شراكةٍ استثماريةٍ مع البنك الأوروبي للاستثمار. ولتعزيز هذه الجهود، تحرِص الدول الأوروبية على زيادة الإنفاق الحكومي في مجالات البحث والتطوير، ورفع الموازنات المُخصصة للبنية التحتية العلمية والتكنولوجية، إلى جانب إنشاء مركزٍ أوروبيٍ للابتكار، وتبسيط الأُطُر التنظيمية كتوحيد السياسات الضريبية، واعتماد نظامٍ موحّدٍ لبراءات الاختراع، ووضع إطارٍ قانونيٍ مشترك لدعم المشاريع المبتكرة على مستوى دول الاتحاد. وفي خطوة أخرى من أجل تشجيع الشركات على البقاء والنمو داخل أوروبا بدلًا من الانتقال إلى أسواقٍ أخرى، يتم تسهيل عملية إدراج تلك الشركات في أسواق المال، وتوحيد أسواق الأسهم بين الدول الأوروبية، مع إتاحة المجال لمؤسسي الشركات بالتحكم في شركاتهم بعد الطرح العام، كما تتيح لهم جمع رأس المال اللازم لتمويل المراحل الأولى من المشروعات. وتهدف هذه الإجراءات في مجملها إلى بناء بيئةٍ استثماريةٍ قوية، تقِل فيها العوائق البيروقراطية، وتزداد فيها فرص النمو والابتكار المستدام.

2. تعزيز نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة عبر تسريع الاندماج

مع تنامي القطاع الخاص، تبرز أهميته كأداةٍ فاعِلةٍ لدعم النمو الاقتصادي، إذ يُعد الركيزة الأساسية في صياغة ملامح الجيل المقبل من الشركات الرائدة على مستوى القارة الأوروبية. ويأتي ذلك انطلاقًا من دوره في تعزيز عملية دمج وتوحيد الشركات أو الكيانات لإنشاء كياناتٍ أكبر وأكثر قدرةً على التنافس، سواء كان داخل الدولة الواحدة أو عبر الحدود الأوروبية، لاسيّما في القطاعات الحيوية. ولعل ما يدعم هذه الفرصة بشكلٍ كبير هو ما تقوم به أوروبا حاليًا من جهودٍ حثيثةٍ لإنشاء شبكاتٍ موحّدةٍ بين دول الاتحاد في قطاعاتٍ بعينها، مثل الاتصالات والنقل والطاقة. وقد بدأت هذه الجهود تؤتي ثمارها بالفعل في بعض الدول مثل إيطاليا، مما يُعزِّز من فرص نجاح هذه الاستراتيجية في بقية الدول الأوروبية.31

وفي إطار هذا التوجّه، يبرز دور البيئة التشريعية والتنظيمية كعاملٍ حاسمٍ في تمهيد الطريق أمام توسع هذه الشركات. فالتحسينات المقترحة على لوائح السوق والمنافسة في الاتحاد الأوروبي يمكن أن تُسهم في تقليل حالة عدم اليقين، وتوفير مناخٍ أكثر استقرارًا وتشجيعًا لصفقات الاندماج والاستحواذ على نطاقٍ واسع. وقد أَوصى كلٌّ من تقرير "دراغي" واستراتيجية "بوصلة التنافسية الأوروبية" بضرورة تبسيط ممارسات الرقابة على عمليات الاندماج على مستوى أوروبا، وتطبيق معايير واضحة وموحّدة فيما يخص الإشعارات الإلزامية عن صفقات الاندماج والاستحواذ. على غرار ما هو معمولٌ به في كلٍّ من النمسا وألمانيا، بما يعزز الشفافية ويزيد من وتيرة الأنشطة الاستثمارية. وفي الإطار ذاته، يُعد الدفع المتزايد نحو اتحاد أسواق رأس المال في أوروبا خطوةً مفصليةً لبناء منظومةٍ مالية أكثر تكاملًا وفعالية، والتي من شأنها تقليص الحواجز أمام تدفق الاستثمارات بين الدول.

كما أن وجود جهةٍ تنظيميةٍ موحدة، كهيئة الأوراق المالية والأسواق الأوروبية، يمكن أن يُسهم في تقليل تكاليف الامتثال وتسهيل تنفيذ الاستثمارات الكُبرى. وفي ظل تعددية القطاعات في أوروبا، تتوافر فرصٌ كبيرةٌ لرؤوس الأموال الخاصة لخلق قيمةٍ اقتصاديةٍ ملموسة، لا سيما عند مقارنتها بالسوق الأمريكية الأكثر اندماجًا (الشكل 4). وبفضل وفرة الخبرات والكفاءات في القارة الأوروبية، يظل رأس المال الخاص أحد الأدوات القليلة التي تتمتع بالقدرة على قيادة استثماراتٍ تحوّلية، تُحفّز عمليات الدمج والتكامل المعقدة، مما يسهم في بناء كياناتٍ قويةٍ قادرة على المنافسة عالميًا.

3. استكشاف مصادر تمويلية غير تقليدية

مع تنامي خبرات شركات رأس المال الخاص بشكلٍ لافت في القطاعات الاستراتيجية كالرعاية الصحية، والطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا، تتزايد فرص التعاون بينها وبين الجهات الحكومية عبر برامج تمويلٍ ضخمة. إذ لم يعد هذا التعاون مقتصرًا على التمويل فحسب، بل امتدّ ليشمل تقديم الرؤى الاستراتيجية والخبرات التشغيلية التي تسهم في رفع كفاءة المشاريع وتسريع وتيرة نجاحها. وفي المقابل، تتيح هذه الشراكة، إلى جانب المبادرات التمويلية واسعة النطاق، بيئةً استثماريةً مستقرة وطويلة الأمد في قطاعاتٍ واعدة ذات نموٍ متسارع. ومع تزايد حجم هذه الفرص وتعقيدها، واحتياجها إلى رؤوس أموالٍ ضخمة، تبرز الحاجة إلى تبنّي مُستثمري القطاع الخاص نهجًا أوسع وأكثر تكاملًا، يتجاوز الدعم التمويلي، ليُقدّم دعمًا تشغيليًا احترافيًا للشركات المستهدَفة.

وفي هذا السياق، من المُنتظر أن تُسهِم التعديلات المُرتَقبة للسياسات الأوروبية في تمكين الجهات الفاعلة من إنشاء صناديقٍ استثماريةٍ ضخمة، مما يُتيح توجيه نسبةٍ أكبر من إجمالي رأس المال المُستثمَر نحو الاستثمارات الخاصة. وتشير التقديرات إلى أن هذه التعديلات ستُعزّز من توجُّه المستثمرين المؤسسيين نحو زيادة حجم استثماراتهم في أصولٍ غير تقليدية، مع ارتفاعٍ متوقّعٍ لنسبة الأصول الخاضعة للإدارة في هذا المجال إلى نحو 16 في المائة بحلول عام 2027، مقارنةً بـ11 في المائة في عام 2015، في الوقت الذي تتجاوز فيه قيمة الأصول في مجالات الأسهم الخاصة، ورأس المال المُغامر، والديون الخاصة، والبنية التحتية، والعقارات، حاجز 2.7 تريليون يورو (أي بزيادةٍ قدرها 800 مليار يورو منذ عام 2023).32ومن المُرجح أن يسهم هذا التحوّل في توفير رؤوس الأموال اللازمة لدفع عجلة النمو، ودعم المشاريع القائمة على الابتكار ضمن قطاعاتٍ استراتيجيةٍ تشهد تحوّلاتٍ متسارعة. كما يُعزز نموذج "الإنشاء بهدف التشارك" الذي بات يحظى بقبولٍ متزايدٍ لدى المؤسسات المالية، من قدرة شركات رأس المال الخاص على الوصول إلى آليات تمويلٍ غير تقليدية وفرصٍ استثماريةٍ مدروسة. ويأتي هذا التوجُّه في ظل بيئةٍ تنظيميةٍ أكثر صرامةً تفرض قيودًا رأسمالية لتقليل حجم المخاطر التي يمكن للبنوك تحمُّلها حفاظًا على استقرارها المالي، مما يجعل من هذا النموذج أداةً فعالة لتوسيع نطاق الاستثمار وتعظيم الاستفادة من الفرص الواعدة في مختلف القطاعات33.

ومن المتوقع أن يقوم مستثمرو رأس المال الخاص بجمع المزيد من الأموال لقطاعاتٍ معينة، مما يعزز قدرتهم على التّخصُص في المشاريع التي يستثمرون فيها، وبالتالي تسريع عملية خلق القيمة في القطاعات التي تعتمد على الابتكار. كما أن جمع هذه الأموال سيُمكّنهم من مواجهة التحديات في المجالات الاستراتيجية الهامة. وتتيح هذه الطريقة المُنظّمة في جمع الأموال للمستثمرين التنقُّل بين الأسواق المعقدة بشكلٍ أكثر كفاءةً، مما يساعدهم على التركيز على استثماراتهم واختيار الفرص بدقة، وبالتالي تمكين شركات رأس المال الخاص من استكشاف الإمكانات الاقتصادية الكاملة للقطاعات الحيوية.

ولإتمام عمليات الاستحواذ والدمج بنجاح، تحتاج الشركات إلى رأس مالٍ ضخم ودعمٍ مستمرٍ لتوسيع نطاقها وتحسين أدائها، مما يمكّنها من التنافس عالميًا. من خلال مدّ جسور التعاون والشّراكات مع البنوك والمؤسسات المالية، يمكن لرأس المال الخاص تعزيز تنوع استثماراته وتحقيق النمو بفعاليةٍ، مما يعُظّم دوره كمحركٍ رئيسيٍ للابتكار والتنمية الاقتصادية.

4. المساهمة في سد الفجوات وتعزيز الإنتاجية

مع اتّساع الفجوة الإنتاجية بين أوروبا والولايات المتحدة، وتأثيرها المباشر على آفاق النمو الاقتصادي الأوروبي على المدى الطويل، بات من الضروري على أوروبا أن تتحرك بجديةٍ لمعالجة هذه الفجوة عبر تعزيز تنافسيتها الاقتصادية. إذ تُشير التقديرات إلى أن نحو 70 في المائة من الفارق في الناتج المحلي الإجمالي للفرد بين كلٍ من أوروبا والولايات المتحدة يعود إلى انخفاض مستوى الإنتاجية في أوروبا.34 غير أن ضَعف الاعتماد على التكنولوجيا الرقمية المتقدمة في الاقتصادات الأوروبية يُنذر باتّساع هذه الفجوة مستقبلًا. ومن اللافت أن القطاعات التي طالما اعتُبرت تاريخيًا دعائم الاقتصاد الأوروبي، مثل صناعة السيارات والصناعات الثقيلة، أصبحت تواجه اليوم تحدياتٍ متصاعدة، من أبرزها ضَعف تكامل التكنولوجيا في عملياتها، وعدم جاهزية سلاسل التوريد لمواكبة المتطلبات الجديدة. فعلى سبيل المثال، يشهد قطاع السيارات تحولًا جوهريًا يتمثّل في تزايد الطلب على الأسواق الجديدة، وتنامي الاهتمام بوسائل التنقُّل الأخضر التي تقلل من التلوث والانبعاثات الكربونية -، والمَركبات المعتمِدة على التقنيات الرقمية والبرمجيات، إلى جانب التوجُّه المتسارع نحو الاقتصاد القائم على إعادة التدوير والاستخدام المستدام للموارد. وفي ظل هذه التحولات، تبرز فرصٌ كبيرة للتحديث الصناعي، تقودها بيئةٌ تنظيميةٌ أكثر تطورًا تركّز على الاستدامة وتقليل الانبعاثات الكربونية. حيث تشكّل هذه البيئة أرضيةً خصبة لتبَنّي التقنيات الحديثة مثل الأتمتة، والذكاء الاصطناعي، واتّباع أساليب التصنيع المتطور الذي يواكب الجيل التالي من التقنيات الحديثة. فقد أصبح تحديث الصناعات الأساسية ضروريٌ لسد الفجوة العالمية في التنافسية عبر تحسين الإنتاجية.

فيما يمكن التعويل على رأس المال الخاص كأحد الأدوات الرئيسية لدعم جهود أوروبا في سد هذه الفجوة، نظرًا لما يُحقِّقه هذا النوع من الاستثمارات من عوائد مرتفعة، إلى جانب دوره الفعّال في تعزيز الإنتاجية داخل القطاعات التي يستثمر فيها. وبفضل اعتماده على نموذج الملكية طويلة الأجل ونهجه النَّشِط في إدارة الشركات، يمتلك رأس المال الخاص فرصةً حقيقيةً لقيادة التحوّلات التكنولوجية القائمة على خلق القيمة الاقتصادية عن طريق تحسين الكفاءة الإنتاجية. كما يلعب دورًا محوريًا في تنمية القدرات البشرية، من خلال استقطاب الكفاءات أو الارتقاء بمهارات العاملين وتحسين أدائهم داخل المؤسسات.

وتزداد أهمية هذا الدور في ظل التعديلات المقترحة على السياسات الأوروبية التي تستهدف تقليص الفجوة الإنتاجية بالاعتماد على مبادرات تطوير مهارات القوى العاملة. وتشمل هذه المبادرات تحديث آليات التمويل، وتيسير إصدار التأشيرات لجذب المواهب من خارج أوروبا، بالإضافة إلى إطلاق برامج لتأهيل الكفاءات التقنية، لا سيما في الشركات الصغيرة والمتوسطة. وتبدو هذه الخطوات أكثر أهميةً في بعض القطاعات الحيوية مثل التكنولوجيا الرقمية، والتقنيات النظيفة، وصناعة السيارات، والاستدامة، خاصةً وأن هذه المجالات تعاني بالفعل من فجواتٍ متناميةٍ في المهارات. وهنا، يمكن لرأس المال الخاص أن يلعب دورًا فاعلًا، سواء عن طريق تمويل برامج تدريب القيادات العليا، أو الحدّ من هجرة العقول إلى الخارج - لا سيما إلى الولايات المتحدة - أو عن طريق الاستثمار في مبادراتٍ متكاملة لإعادة تأهيل الكوادر ورفع كفاءتها، بما يضمن مواءمة سوق العمل الأوروبي مع متطلبات اقتصاد المستقبل القائم على رأس المال البشري ذي المهارات العالية.

وتزداد فرص رأس المال الخاص في تسريع التحول الذي تنشُده أوروبا على صعيد الإنتاجية والتكنولوجيا، بفضل دوره الحيوي في إدارة وتشغيل المشروعات، ولما يُوّفره من موارد مالية يمكن استخدامها بطرقٍ مرنة، بما يتناسب مع احتياجات القطاعات التي تُوَجه إليها، بالإضافة إلى الخبرة التشغيلية المتقدمة التي يمتلكها المستثمرون، والتي تسهم في تحسين أداء الشركات ودفعها نحو الابتكار وتبَنّي التقنيات الحديثة، كأنظمة الذكاء الاصطناعي والروبوتات المتقدمة. ولا يقتصر دور رأس المال الخاص على الجانب المالي أو التقني فحسب، بل يمتد ليشمل خبراته العالمية المتراكمة، وقدرته على تعزيز التعاون بين الصناعات المختلفة، مما يجعله عنصرًا أساسيًا في مساعي أوروبا نحو تعزيز إنتاجيتها وتحقيق الريادة في الجيل القادم من الابتكارات. ومن خلال استثماراتٌ طويلة الأمد قائمةٌ على المعرفة والخبرة، يستطيع رأس المال الخاص الإسهام في تحديث الصناعات الأساسية، وتقليص فجوة الإنتاجية، فضلًا عن ترسيخ مكانة أوروبا كلاعبٍ أساسي في مستقبل الاقتصاد الرقمي والصناعي.

الطريق نحو المستقبل

ولتحقيق التنافسية العالمية، ينبغي على مستثمري رأس المال الخاص في أوروبا الاهتمام بعدة عوامل، منها زيادة حجم الاستثمارات ووضع استراتيجياتٍ أكثر تطورًا لدعم الصناعات الحيوية على مستوى القارة، والبحث عن مصادر تمويلٍ جديدة، كالشراكات مع البنوك على سبيل المثال، إلى جانب ضرورة العمل على بناء قدراتٍ جديدة، والتركيز على تحسين الأداء التشغيلي للشركات من خلال دعم وتطوير العمليات.

على الرغم من التحديات التي تواجهها أوروبا في الوقت الحالي، إلا أنها لا تزال تمتلك الفرصة لإعادة بناء قوتها التنافسية على الساحة العالمية. فعبر بوابة رأس المال الخاص، تستطيع أوروبا تحفيز الابتكار وتوسيع نطاق الأعمال، فضلًا عن جذب الاستثمارات اللازمة لتقليص الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة. ولذا، يُمكن لرأس المال الخاص بالتوافق مع استراتيجية المفوضية الأوروبية لتعزيز التنافسية، واستثمار الفرص المتاحة في السوق، أن يصبح قوةً محوريةً في دفع عجلة النمو المستدام وتعزيز قدرة أوروبا على مواجهة تحديات المستقبل بمرونةٍ أكبر.

Explore a career with us